السبت، 10 يونيو 2017

من روائع الأدب الحديث

من روائعِ الأدب الحديث . .

بقلم .. د . أحلام الحسن

في خضم الأدب العربي العريق والأصيل ومن إحدى أروع مدارسه التي بزغت لدنيا الأدب في الثلاثينات مدرسة جماعة أبولو والتي أسسها الشاعر الكبير أحمد زكي وتبعه الشاعر إبراهيم ناجي لتنطلق في سماء الأدب العربي الوجداني المرهف وينطلق إبراهيم ناجي معها أيما إنطلاق رغم كثرة العراقيل التي حاولت بعض مدارس الشعر كمدرسة الديوان التي أسسها العقاد التصدي لهذه المدرسة الأدبية اليافعة آنذاك ..
والشاعر الكبير أحمد زكي أبو شادي من مواليد 1892م تلك الفترة التي بزغت أكثر المدارس الشعرية فيها في مصر والوطن العربي ..
بزغت هذه المدرسة الشعرية ( أبولو ) في زمن الإستعمار والإضطهاد التي عانت مصر منه وهي فترةٌ عصيبة ومن أقسى الفترات على مصر ..

نشأت جماعة أبولو مابين (1932-1935)
سبب التسمية  :
وتعني ( إله الإغريقية أبولو ) والذي يدعو للتنمية والحضارت ومحبة الفلسفة وإقرار المبادئ الدينية والخلقية والإنطواء إلى الوجدانية المرهفة والحزن العميق والفراق وكلّ ماهو متعلقً بالوجدان والعزلة .. رغم بعض القصائد المغايرة عندهم لهذا الإنطواء والطابع العام الحزين لهذه المدرسة وعجزها عن التصدي للواقع المرير آنذاك .. وبرغم هذا الحس الوجداني المنعزل والحزين تمخضت مدرسة أبولو عن كبار الشعراء أثْروا الساحة الأدبية العربية بأجمل وأبدع القصائد والتي مازالت إلى اليوم يُتغنّى بها على ألسنة المطربين والمطربات ..
وقد اشتهرت قصيدة الأطلال ل إبراهيم ناجي أيما شهرة بعدما أنطلقت على لسان سيدة الغناء الراحلة أم كلثوم حيث اختارت بعض أبياتٍ من القصيدة وهي من بحر الرمل وعدد أبياتها 125   بيتًا والتي قال في مطلعها  :

يا فؤادي رحم الله الهوى / كان صرحًا من خيالٍ فهوى
اسقني واشرب على أطلالهِ / وأرو عني طالما الدمع روى
كيف ذاك الحب أمسى خبراً / وحديثًا من أحاديث الجوى
وبساطًا من ندامى حلمٍ / هم تواروا أبدًا وهو انطوى
يا رياحًا ليس يهدأ عصفها  /نضب الزيت ومصباحي انطفأ
وأنا أقتات من وهمٍ عفا / وأفي العمر لناسٍ ما وفى
كم تقلبت على خنجره  / لا الهوى مال ولا الجفن غفا
وإذا القلب على غفرانه / كلما غار به النصل عفا
يا غرامًا كان مني في دمي / قدرًا كالموت أو في طعمه
ما قضينا ساعةً في عرسهِ / وقضينا العمر في مأتمه
ما انتزاعي دمعةً من عينه / واغتصابي بسمة من فمه
ليت شعري أين منه مهربي /  أين يمضي هارب من دمه
لست أنساك وقد أغريتني  / بالذرى الشم فأدمنت الطموح

والمتأمل لهذه الحالة الأدبية الرائعة في القصيدة والمنطلقة من بين روح وفكر الشاعر إبراهيم ناجي يدرك مدى الألم الوجداني الساكن بين أضلاعه والمشتعلة منه هذه القصيدة الرائعة بكلّ المعاير الوجدانية المؤثرة في قارئها أيّما تأثير  ..

يا فؤادي رحم اللّهُ الهوى
كان صرحًا من خيالٍ فهوى

وهنا تتضح الحسرة جليةً فلا يترحم بهذه الصورة إلاّ على الميت المفقود .. والشاعر هاهنا في حالة فقدان حبه الذي تفتق فيه عن هذه القصيدة وكان سببًا في كتابتها ..

ونجد مدى المعأناة في البيت بل في كامل القصيدة واليأس أيضا
( كان صرحًا من خيالٍ فهوى ) :
وهنا إقرارٌ وانهزامٌ نفسيٌ شديد فقد هوى هذا الحبّ بعد أن كان صرحًا من خيالٍ فهوى !
هنا نجدُ محاولة أخرى للشاعر في إقناع ذاته بأنّ ذاك الحبّ ما كان سوى صرحًا من خيالٍ فاق منه !! وما كان حقيقة .. وحتمًا بأنّه كان حقيقة تمخضت بالفشل ففرّ هاربًا بشعوره بإحساسه بصدمته المؤلمة ليوهم نفسه بأنّه كان خيالٍ !

إسقني واشرب على أطلاله
وأرو عني طالما الدمع روى

كيف ذاك الحبُّ أمسى خبرًا
وحديثًا من أحاديثِ الجوى

ويرى القارئ كيف بلغ السيل مداه ب الشاعر العملاق إبراهيم ناجي فكلّ الواقع الغرامي الذي كان يعيشه أصبح أطلالًا من الأسى المؤلم فلا حقيقة لهُ الآن ! 

( إسقني واشرب على أطلالهِ ) :

خطابٌ لفؤاده المصدوم ودعوةٌ له ليكون كالشاعر في هذا الألم والهروب إلى عالم النسيان والوجدان وهو هروبٌ من الواقع المرير والمؤلم إلى حالة السكر الوجداني الحزين والبكاء على الماضي السحيق .. البكاء على أطلال ذلك الحب

( وأرو عنّي طالما الدّمع روى ) :

قمة الحزن فذاك السُّكر وتلك الخمرة ما كانت غير دموعه !!
وأرو عنّي : قمة البلاغة في القصيدة شربٌ ورواءٌ منهُ ولهُ وكأنّ منبع هذا الألم هو الشاعر فقط ومن نبعه سيرتوي ذاك الفؤاد المتصدع به !
وهناك نظرةٌ ثانية لعل إبراهيم ناجي قصدها بالتحديد في كلمة " وأرو عني " أي بمعني كن رآويا عني ما أنا فيه من الأسى ومن الشجن الحارق للمهجة " طالما الدمع روى " .

( كيف ذاك الحبُّ أمسى خبرا ) :
ولا يكون المساء إلاّ بعد شروق شمس الصباح وهنا تشبيهٌ رائعٌ فقد توارت شمس ذاك العشق والحبّ .. وتوارى معها ذلك الأمل  .. وصار خبرًا من الماضي الجارح والحزين بعد أن كان واقعا حيًّا ..

(وحديثًا من أحاديث الجوى ) :
بحرقة الوجد وبالجوى وبالنفس ما عاد للحبّ ذاك من وجود غير الحرقة واللهب المشتعل بالقلب ومجرد حديث الجوى الحارق !
وكما ذكرنا في بداية المقال بأن مدرسة جماعة أبولو قامت على الأحاسيس المنعزلة والوجدان العميق جدا جدا للشاعر دون معاصرة الأحداث العامة كثيرا . . وبهذا الجمال الأدبي الفريد والذي سارت على منهجهِ أقلامٌ تأملُ بأن تصل لمرحلة إبداعه يومًا ما ..

وبساطًا من ندامى حُلمٍ
هم تواروا وهو انطوى

يرجع للذكريات المريرة به وبساطًا من ندامى حلمٍ ..
ندامى بمعنى النديم الذي يسامره ويأنس له .. كان حلما توارى بمن يحبها .. فلقد طوي البساط وانتهى الأمر .. ولكن هل فعلا انتهى الأمر عند إبراهيم ناجي !

وأنا أقتاتُ من وهمٍ  عفا
وأفي العمر لناسٍ ما وفا

كم تقلّبتُ على خنجرهِ
لا الهوى مالَ ولا الجفنُ غفا

يا غرامًا كان مني في دمي
قدرًا كالموت أو في طعمه

ما قضينا ساعةً في عرسهِ
وقضينا العمر في مأتمه

ما انتزاعي دمعةً من عينه
واغتصابي بسمة من فمه

ليت شعري أين منه مهربي
  أين يمضي هارب من دمه

لست أنساك وقد أغريتني 
بالذرى الشم فأدمنت الطموح

وهنا نرى إصرارًا يعاود إبراهيم ناجي ولوعةً ما بعدها لوعة .. وحبًّا منفردا في معايره .. ألمٌ فاق بالكثير الكثير عن عنترة ابن شداد وعن قيس ابن الملوح ..

ياغراما كان مني في دمي
قدرًا كالموتِ أو في طعمهِ
" ليت شعري أين منه مهربي
أين يمضي هاربٌ من دمه ِ !!!

وهنا نجد تحوّلا صارمًا في تغيّر الحرف الروي للقصيدة وإبداعًا ينطلق من شاعرٍ مبدعٍ ركب سفين التحدي في كتابة الشعر العمودي .. والذي ينظر البعض من الشعراء القدامي والمعاصرين أيضا إلى أنّ تعدد الحرف الروي في القصيدة الواحدة يُعدّ عيبا يعيب القصيدة !!
ونرى روعة وإبداع وشعور إبراهيم ناجي ضرب عرض الحائط لتلك القاعدة الأدبية ليخرج بدّرةٍ أدبيةٍ كبيرةٍ توزن بالذهب إن كان يفي .. ولا أظن بأنّ الزمان سيجود علينا بمثله أو بمثل أطلاله .